مذكرات في
تاريخ الكنيسة
خراب أورشليم وهيكلها
اورشليم وهيكلها :
قبل ان نتناول موضوع خراب أورشليم وهيكلها . نرى من المفيد أن نقف قليلاً نظرة سريعة عليهما .
على الرغم من الثراء العريض الذي حققه كثير من اليهود خارج اليهودية في الأقطار الأخرى فقد . كانوا يتطلعون دائماً بشوق إلي أورشليم ، وما يحيط بها ... كانوا يعتبرون أورشليم وكل سكانها من اليهود – أنها المكان اغلوحيد في العالم ، حيث يشعرون – إلي حد ما – أنهم سادة في بيتهم ، وأن منها ستظهر ( حسب فهمهم المداي الخاطئ ) المملكة اليهودية الكبيرة الموعد بها ، وفيها أيضاً سيظهر المسيا المنتظر ... وهكذا كانت أورشليم مركز اليهودية في العلم كله ، وقلبها النابض وفي عهد الرسل كانت أورشليم علي جانب كبير من الثراء المادي وبلغ عدد سكانها نحو مائتى ألف نسمة . لكنها لم تعد – كما كانت في زمان داود وسليمان – تستمد عظمتها وثروتها من قوتها العسكرية ، أو تجارتها مع شعوب فلسطين . بل من هيكل يهوه وحده ... كان علي كل ذكر يهودي تجاوز عمره الستين ، اينما يعيش ، غنياً كان أم فقيراً أن يسهم في الحفاظ علي الهيكل ، بأن يدفع درهمين ( 2/1 شاقل ) سنوياً ضريبة للهيكل ترسل إلى أورشليم . وقد أوفى الرب يسوع هذه الضريبة ( مت17 : 24 ) وإلى جانب ذلك كانت تصل إلي أورشليم تقدمات كثيرة لا تحصى كما كان لزاماً علي كل يهودي غيور أن يحج إلي أورشليم – مرة واحدة علي الأقل في حياته حيث مسكن إلهه يهوه ... ففيه وحده يقبل الله التقدمات هكذا ترنم داود وقال عن هذا المسكن أن الله يسكن ففيه وحده يقبل الله التقدمات هكذا ترنم داود وقال عن هذا المسكن أن الله يسكن فيه إلي البد ( مز68 : 16 ) ... أما المجامع اليهودية المنتشرة في المدن المختلفة خارج أورشليم فكانت أماكن اجتماعات وعبادة ومدارس ... لكنها لم تكن بحال ما هياكل تقدم فيها الذبائح .
لابد إذن وأن تكون ضرائب الهيكل ، والحج ، قد أمدها بأموال طائلة وأنعشت الحالة الاقتصادية ، وأتاحت فرصاً للعمل والكسب لكثير من اليهود ، وهكذا فأن عبادة يهوه في أورشليم – بصورة مباشرة وغير مباشرة – قد أفادت ليس فقط كهنة الهيكل والكتبة وحدهم بل أيضاً أصحاب المتاجر والحرف والصيارف والفلاحين والرعاة وصيادي اليهودية والجليل الذين وجدوا في أورشليم سوقاً رائجاً لمنتجاتهم ... وغذ كان السيد المسيح قد وجد في الهيكل باعة ومشترين وصيارف فقد كان هذا يتمشى ووضع الهيكل بالنسبة لحياة أورشليم وشعبها . كانت حياة اليهود وآمالهم متعلقة بأورشليم " أن نسيتك يا اورشليم فلتنس يمينى ، ليلتصق لساني بحنكى إن لم أذكرك أن لم أفضل أورشليم علي أعظم فرحي " ( مز137 : 5 ، 6 ) .... من أجل هذا قامت بعض محاولات لبناء أماكن يحج إليها اليهود خارج أورشليم لكن كل هذه المحاولات باءت بالفشل ... من امثلة ذلك المحولة التىقام بها شخص يدعي أنياس onias وهو ابن لرئس كهنة يهودي – هذا بني هيكلاً ليهوه في مصر في عهد بطليموس فيلوباتير ( 173 – 146 ق . م ) بمعاونة هذا الملك الذي كان يأمل أن يصبح رعاياه من اليهود أكثر ولاء له ، حينما يكون لهم هيكل في بلده ، لكن هذا الهيكل فشل في فكرته وغرضه ... وهكذا ظلت أورشليم وهيكلها قبلة اليهود من كل أنحاء العالم يولون وجوههم شطرها في الصلاة وإليها يرسلون تقدماتهم ويحجون إليها للتبرك وتقديم الذبائه ... ويحفظون لها كل ولائهم ...
+ بشائر مشئومة :
سبق خراب أورشليم وهيكلها بشائر مشئومة في أورشليم ذاتها وفي خارجها .... ونستعرض أهمها فيما يلى :
1 – يذكر المؤرخون أن الست سنوات الواقعة بين اضطهاد نيرون وخراب أورشليم ( 64 – 70 م ) كانت أكثر فترات التاريخ القديم غمتلاء بالرذيلة والفساد والكوارث .. لقد بدأ الوصف البنوي الذي قدمه لنا ربنا يسوع عن خراب أورشليم وهيكلها يتحقق . وبدا للمسيحيين ، وكأن يوم الدينونة علي الأبواب ... ولم يكن هذا الإحساس قاصراً علي المسيحيين وحدهم بل شاركهم فيه كثير من الوثنيين أيضاً .
حتى أن المؤرخ الوثني تاكيتوس tacitus حينما أخذ يسجل تاريخ روما بعد موت نيرون بدأه بقوله ( أنني مقبل علي عمل غني بالكوارث ، ملئ بالمعارك الفظيعة والمنازعات والثورات ... حتى في زمان السلم لقد قتل أربعة أمراء بالسيف وفي وقت واحد نشبت ثلاثة حروب أهلية وعديد من الحروب الخارجية العنيفة ... ايطاليا مثقلة بكوارث جديدة أو قديمة متكررة . مدناً تبتلع أو تدفن تحت الحطام لقد اتلفت الحرائق روما . احترقت معابدها القديمة . حتى الكابيتول أضرم المواطنون النيران فيه . انتهكت المقدسات ، وتفشى الزنا ايضاً حتى في الأماكن السامية وامتلات البحار باماكن النفي وتخضبت الجزر الصخرية بدماء القتلى ، وما زال الهياج المرعب يسود المدينة .
2 – أما فلسطين فكانت أكثر بلاد العالم شقاء في تلك الفترة . أن مأساة خراب أورشليم إنما تمثل مقدما وبصورة مصغرة الدينونة الأخيرة كما أنبأ عنها السيد المسيح في حديثه عن نهاية العالم ، أخيراً وصل احتمال الله لشعب اليهود إلى الذروة ، بعد أن فاقوا في عنادهم كل تصور ، فصلبوا مخلصهم !! وما لبثوا أن رجموا يعقوب البار الذي كان أنسب يصالح اليهود مع المسيحية . لقد ظهرت وحدثت ظواهر وأحداث عجيبة قبيل خراب أورشليم في السماء وعلى الرض سجلها لنا يوسيفوس المؤرخ اليهودي المعاصر … ظهر فوق أورشليم ولمدة سنة كاملة ، نجم مذنب يشبه السيف . وحدث ان بقرة وضعت حملاً وسط الهيكل بينما كان رئيس الكهنة كان سيقدمها ذبيحة . والباب الشرقي الداخلي الضخم المصنوع من النحاس الذي كان يحكم إغلاقه ويقوم على غلقة عشرون رجلاً بصعوبة شوهد ينفتح من تلقاء ذاته أثناء الليل . كما شوهدت مركبات وفرق من الجند مدججين بالسلاح بين السحب فوق المدينة المقدسة …. ويذكر لنا يوسيفوس حادثاً عجيباً أخر ففي سنة 63 – قبل خراب المدينة بسبع سنوات – ظهر فلاح اسمه يوشيا في مدينة اورشليم في عيد المظال وأخذ يصيح بلهجة نبوية نهاراً وليلاً في الشوارع وبين الناس قائلاً ( صوت من الشرق صوت من الغرب صوت من الرياح الأربعة صوت ضد اورشليم والبيت المقدس صوت ضد العرائس والعرسان صوت ضد هذا الشعب جميعه ويل ويل لأورشليم ) وإذ أزعج هذا المتنبئ الحكام بولايته قبضوا عليه وجلدوه لأنه تنبأ بالشر عليهم وعلي مدينتهم … أما هو فلم يبد أية مقاومة ، بل أستمر يردد ويلاته . ولما قدم لألبينوس Albinus الوالي امر بجلده حتى ظهرت عظامه ومع كل ذلك ما كان ينظق بكلمة دفاعاً عن نفسه ولا لعن اعداءه وكل ما كلن يفعله كان يصدر صوتاً حزيناً مع كل جلده ( ويل ويل لأورشليم ) لم يجب بشئ على أسئلة الحاكم من هو ؟ ومن أين ؟ ... واخيراً أطلقوا سراحه كرجل مجنون لكنه أستمر على هذه الحالة حتى نشبت الحرب لا سيما في الأعياد الثلاثة الكبرى معلنا اقتراب سقوط اورشليم وحدث أثناء حصار المدينة أنه كان يردد مرثاته فوق سور المدينة من قوله هذا حتى أستقر حجر على راسه ألقاه الرومان فمات .
+ ثورة اليهود :
في مدة حكم الولاة الرومان فيلكس وفستوس والبينوس وفلوروس Florus ازداد الفساد الأخلاقى والانحلال الاجتماعي بين يهود فلسطين مع ازدياد ثقل نير الحكم الروماني علي الشعب سنة بعد أخرى . وكان من مظهر هذا الانحلال ظهور جماعة من السفاحين في عهد ولاية فيلكس عرفوا بأسم ( حملة الخناجر ) Sicarians من الكلمة sica أى خنجر . كانوا مسلحين بالخناجر وعلى استعداد لاتكاب أي جريمة مقابل أي شئ .. أنتشر هؤلاء في ربوع فلسطين وهددوا الأمن في المدن والريف .
وإلى جانب ذلك ، وصلت روح التحزب بين اليهود أنفسهم وكراهيتهم لمستعمريهم الوثنيين وتعصبهم السياسي والديني حداً بالغاً . وقد شجع على هذه الروح وزادها اشتعالاً ظهور الأنبياء والمسحاء الكذبة . وقد استطاع احدهم – بحسب رواية يوسيفوس – أن يجذب وراءه ثلاثين ألف رجل .. وهكذا بدأت تتم كلمات ربنا يسوع النبوية عن ظهور مسحاء كذبة وأنبياء كذبة يضلون كثيرين . وفي شهر مايو سنة 66م – تحتحكم الوالي الروماني فلوروس وكان طاغة شريراً – قاسياً اندلعت ثورة يهودية منظمة ضد الرومان . وفي نفس الوقت قامت حرب أهلية بين جماعات الثوار المختلفة . لا سيما بين جماعة الغيورين zealots المتطرفين وفريق المعتدلين ، أو بين المتطرفين والمحافظين من اليهود .. كان أعضاء جماعة الغيورين مملوءين شراسة وتعصباً للدين والوطن والقومية اليهودية وكان لهم النفوذ والسيطرة في المجال الحربي . ومن ثم فقد سيطروا بعنفهم علي المدينة المقدسة أورشليم وهيكلها . وأشاعوا الذعر بين الأهالي ، وعبأوا أفكار الناس ومشساعرهم انتظار لظهور المسيا . كما رحبوا بكل خطوة نحو الدمار والخراب ، كخطوة التحرر وفسروا ظهور المذنبات والشهب والإنذارات المخيفة والأعاجيب التي صاحبت تلك الفترة علي أنها علامات لمجئ المسيات وملكه علي الأمم لقد كان تحدي اليهود للدولة الرومانية في ذلك الوقت يعني تحديهم لأكبر قوة مسلحة في العالم وقتذاك . ومع ذلك فقد أعماهم تعصبهم الديني الذي استوحوه من ذكريات بطولات ثورات المكابيين عن الفشل المحقق .
الغزو الروماني :
عندما بلغ نيرون خبر ثورة اليهود أرسل قائده الذائع الصيت فسبسيان علي رأس قوة كبيرة إلى فلسطين ... بدأت الحملة سنة 67 من ميناء بتولمايس ( عكا ) وواجهت مقاومة مستميتة في الجليل قوامها ستون الف مقاتل ... لكن ما لبثت الأحداث في روما أن حالت بين فسبسيان واستكمال النصر ، واضطرته إلي العودة إليها . بعد أن أنتحر نيرون وتعاقب علي العرش الإمبراطوري ثلاثة أباطرة في فترة وجيزة . انتهى الأمر بأن أعلن فسبسيان إمبراطوراً سنة 69 ، فعمل علي إعادة الأمن والنظام في ربوع وأقام بعد هذه الأحداث بعشر سنوات ... كان جيش تيطس قوامه نحو ثمانين ألف مقاتل مدرب ؟، واقام معسكره علي جبل سكوبس وجبل الزيتون . وهى مواقع تمكنه من رؤية المدينة أورشليم والهيكل رؤية واضحة . وكان وادي قدرون يفصل بين الرومان واليهود المحاصرين . بدأ الحصار في أبريل سنة 70م عقب عيد الفصح مباشرة . وكانت أوشرليم غاصة بالغرباء الذين وفدوا إليها لحضور ذلك العيد العظيم ، حاول تيطس في بادئ المر التفاهم مع اليهود بالحسنى ، لكن جماعة الغيورين رفضوا بكل تحد مقترخات تيطس ومحاولاته المتكررة . وتوسلات يوسيفوس ( المؤرخ ) الذي صحبه كمترجم ووسيط .. وكانوا في ثورتهم الجنوبية يقتلون كل من يتحدث عن الاستسلام . قام اليهود ببعض الهجمات اسفل وادي قدرون وفوق الجبل.